الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} تقدم معناه. و}الكتاب} قيل فيه: إنه اسم لجنس الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل، ثم قرنهما بالكتاب المبين. وقيل: الكتاب هو القرآن، جمع له بين الاسمين. {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} {رب} لا تدخل على الفعل، فإذا لحقتها }ما} هيأتها للدخول على الفعل تقول: ربما قام زيد، وربما يقوم زيد. ويجوز أن تكون }ما} نكرة بمعنى شيء، و}يود} صفة له؛ أي رب شيء يود الكافر. وقرأ نافع وعاصم }ربما} مخفف الباء. الباقون مشددة، وهما لغتان. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما؛ قال الشاعر: وتميم وقيس وربيعة يثقلونها. وحكي فيها: رَبَّمَا ورَبَمَا، ورُّبَّتَمَا ورُّبَتَمَا، بتخفيف الباء وتشديدها أيضا. وأصلها أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير؛ أي يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين؛ قاله الكوفيون. ومنه قول الشاعر: وقال بعضهم: هي للتقليل في هذا الموضع؛ لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها؛ لشغلهم بالعذاب، والله أعلم. قال{ربما يود} وهي إنما تكون لما وقع؛ لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان. {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} قوله تعالى{ذرهم يأكلوا ويتمتعوا} تهديد لهم. }ويلههم الأمل} أي يشغلهم عن الطاعة. يقال: ألهاه عن كذا أي شغله. ولهي هو عن الشيء يلهى. }فسوف يعلمون} إذا رأوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا. وهذه الآية منسوخة بالسيف. في مسند البزار أنى تفوز بما ترجوه ويك وما أصبحت في ثقة من نيل أدناها وقال الحسن: (ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل). وصدق رضي الله عنه! فالأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقب التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وهذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان ولا يطلب صاحبه ببرهان؛ كما أن قصر الأمل يبعث على العمل، ويحيل على المبادرة، ويحث على المسابقة. {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} أي أجل مؤقت كتب لهم في اللوح المحفوظ. {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} {من} صلة؛ كقولك: ما جاءني من أحد. أي لا تتجاوز أجلها فتزيد عليه، ولا تتقدم قبله. ونظيره قوله تعالى {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين} قاله كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم على وجهة الاستهزاء، ثم طلبوا منه إتيان الملائكة دلالة على صدقه. و}لوما} تحضيض على الفعل كلولا وهلا. وقال الفراء: الميم في }لوما} بدل من اللام في لولا. ومثله استولى على الشيء واستومى عليه، ومثله خالمته وخاللته، فهو خلي وخلمي؛ أي صديقي. وعلى هذا يجوز }لوما} بمعنى الخبر، تقول: لوما زيد لضرب عمرو. قال الكسائي: لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام. قال ابن مقبل: يريد لولا الحياء. وحكى النحاس لوما ولولا وهلا واحد. وأنشد أهل اللغة على ذلك: أي هلا تعدون الكمي المقنعا. {ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين} قرأ حفص وحمزة والكسائي }ما ننزل الملائكة إلا بالحق} واختاره أبو عبيد. وقرأ أبو بكر والمفضل }ما تُنَزَّل الملائكة}. الباقون }ما يَنَزَّل الملائكة} وتقديره: ما تتنزل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، وقد شدد التاء البزي، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} قوله تعالى{الذكر} يعني القرآن. }وإنا له لحافظون} من أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلا أو تنقص منه حقا؛ فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا، وقال في غيره {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} المعنى: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا، فحذف. والشيع جمع شيعة وهي الأمة، أي في أممهم؛ قاله ابن عباس وقتادة. الحسن: في فرقهم. والشيعة: الفرقة والطائفة من الناس المتآلفة المتفقة الكلمة. فكأن الشيع الفرق؛ ومنه قوله تعالى {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي كما فعل بك هؤلاء المشركون فكذلك فعل بمن قبلك من الرسل. {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين} قوله تعالى{كذلك نسلكه} أي الضلال والكفر والاستهزاء والشرك. }في قلوب المجرمين} من قومك؛ عن الحسن وقتادة وغيرهما. أي كما سلكناه في قلوب من تقدم من شيع الأولين كذلك نسلكه في قلوب مشركي قومك حتى لا يؤمنوا بك، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم. وروى ابن جريج عن مجاهد قال: نسلك التكذيب. والسلك: إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط. يقال: سلكه يسلكه سلكا وسلوكا، وأسلكه إسلاكا. وسلك الطريق سلوكا وسلكا وأسلكه دخله، والشيء في غيره مثله، والشيء كذلك والرمح، والخيط في الجوهر؛ كله فعل وأفعل. وقال عدي بن زيد: والسلك (بالكسر) الخيط. وفي الآية رد على القدرية والمعتزلة. وقيل: المعنى نسلك القرآن في قلوبهم فيكذبون به. وقال الحسن ومجاهد وقتادة القول الذي عليه أكثر أهل التفسير، وهو ألزم حجة على المعتزلة. وعن الحسن أيضا: نسلك الذكر إلزاما للحجة؛ ذكره الغزنوي. }وقد خلت سنة الأولين} أي مضت سنة الله بإهلاك الكفار، فما أقرب هؤلاء من الهلاك. وقيل{خلت سنة الأولين} بمثل ما فعل هؤلاء من التكذيب والكفر، فهم يقتدون بأولئك. {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} يقال: ظل يفعل كذا، أي يفعله بالنهار. والمصدر الظلول. أي لو أجيبوا إلى ما اقترحوا من الآيات لأصروا على الكفر وتعللوا بالخيالات؛ كما قالوا للقرآن المعجز: إنه سحر. }يعرجون} من عرج يعرج أي صعد. والمعارج المصاعد. أي لو صعدوا إلى السماء وشاهدوا الملكوت والملائكة لأصروا على الكفر؛ عن الحسن وغيره. وقيل: الضمير في }عليهم} للمشركين. وفي }فظلوا} للملائكة، تذهب وتجيء. أي لو كشف لهؤلاء حتى يعاينوا أبوابا في السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل لقالوا: رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له؛ عن ابن عباس وقتادة. ومعنى }سكرت} سدت بالسحر؛ قاله ابن عباس والضحاك. وقال الحسن: سحرت. الكلبي: أغشيت أبصارنا؛ وعنه أيضا عميت. قتادة: أخذت. وقال المؤرج: دير بنا من الدوران؛ أي صارت أبصارنا سكرى. جويبر: خدعت. وقال أبو عمرو بن العلاء{سكرت} غشيت وغطيت. ومنه قول الشاعر: وقال مجاهد{سكرت} حبست. ومنه قول أوس بن حجر: قلت: وهذه أقوال متقاربة يجمعها قولك: منعت. قال ابن عزيز{سكرت أبصارنا} سدت أبصارنا؛ هو من قولك، سكرت النهر إذا سددته. ويقال: هو من سكر الشراب، كأن العين يلحقها ما يلحق الشارب إذا سكر. وقرأ ابن كثير }سكرت} بالتخفيف، والباقون بالتشديد. قال ابن الأعرابي: سكرت ملئت. قال المهدوي: والتخفيف والتشديد في }سكرت} ظاهران، التشديد للتكثير والتخفيف يؤدي عن معناه. والمعروف أن }سكر} لا يتعدى. قال أبو علي: يجوز أن يكون سمع متعديا في البصر. ومن قرأ }سكرت} فإنه شبه ما عرض لأبصارهم بحال السكران، كأنها جرت مجرى السكران لعدم تحصيله. وقد قيل: إنه بالتخفيف (1) {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين} لما ذكر كفر الكافرين وعجز أصنامهم ذكر كمال قدرته ليستدل بها على وحدانيته. والبروج: القصور والمنازل. قال ابن عباس: أي جعلنا في السماء بروج الشمس والقمر؛ أي منازلهما. وأسماء هذه البروج: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. والعرب تعد المعرفة لمواقع النجوم وأبوابها من أجل العلوم، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب. وقالوا: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف. وأصل البروج الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها. وقد تقدم هذا المعنى في النساء. وقال الحسن وقتادة: البروج النجوم، وسميت بذلك لظهورها. وارتفاعها. وقيل: الكواكب العظام؛ قال أبو صالح: يعني السبعة السيارة. وقال قوم{بروجا}؛ أي قصورا وبيوتا فيها الحرس، خلقها الله في السماء. فالله أعلم. }وزيناها} يعني السماء؛ كما قال في سورة الملك {وحفظناها من كل شيطان رجيم} أي مرجوم. والرجم الرمي بالحجارة. وقيل: الرجم اللعن والطرد. وقد تقدم. وقال الكسائي: كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم. وزعم الكلبي أن السماوات كلها لم تحفظ من الشياطين إلى زمن عيسى، فلما بعث الله تعالى عيسى حفظ منها ثلاث سماوات إلى مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظ جميعها بعد بعثه وحرست منهم بالشهب. وقاله ابن عباس رضي الله عنه. قال ابن عباس: (وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعا فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل؛ فإذا رأوا شيئا مما قالوه صدقوهم فيما جاؤوا به، فلما ولد عيسى بن مريم عليهما السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب؛ على ما يأتي. {إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} أي لكن من استرق السمع، أي الخطفة اليسيرة، فهو استثناء منقطع. وقيل، هو متصل، أي إلا ممن استرق السماع. أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره؛ إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها منه أن تسمع الخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا؛ لقوله قوله تعالى{فأتبعه شهاب مبين} أتبعه: أدركه ولحقه. شهاب: كوكب مضيء. وكذلك شهاب ثاقب. وقوله وسمي الكوكب شهابا لبريقه، يشبه النار. وقيل: شهاب لشعلة من نار، قبس لأهل الأرض، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقت كما إذا أحرقت النار لم تعد، بخلاف الكوكب فإنه إذا أحرق عاد إلى مكانه. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو، فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو أنفه أو ما شاء الله فيلتهب، فيأتي أصحابه وهو يلتهب فيقول: إنه كان من الأم كذا وكذا، فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليها تسعا، فيحدثون بها أهل الأرض؛ الكلمة حق والتسع باطل. فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بكل ما جاؤوا به من كذبهم. وسيأتي هذا المعنى مرفوعا في سورة }سبأ} إن شاء الله تعالى. واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا. فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يقتل؛ فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم؛ فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن؛ ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق؛ ذكره الماوردي قلت: والقول الأول أصح على ما يأتي بيانه في }الصافات}. واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث؛ فقال الأكثرون نعم. وقيل لا، وإنما ذلك بعد المبعث. وسيأتي بيان هذه المسألة في سورة }الجن} إن شاء الله تعالى. وفي }الصافات} أيضا. قال الزجاج: والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده؛ لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم، ولم يشبهوا الشيء السريع به كما شبهوا بالبرق وبالسيل. ولا يبعد أن يقال: انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان ولكنه لم يكن رجوما للشياطين، ثم صار رجوما حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال العلماء: نحن نرى انقضاض الكواكب، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان. ويجوز أن يقال: يرمون بشعلة من نار من الهوى فيخيل إلينا أنه نجم سرى. والشهاب في اللغة النار الساطعة. {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} قوله تعالى{والأرض مددناها} هذا من نعمه أيضا، ومما يدل على كمال قدرته. قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء؛ كما قال وقال قتادة: موزون يعني مقسوم. وقال مجاهد: موزون معدود؛ ويقال: هذا كلام موزون؛ أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي أنبتنا في الأرض ما يوزن من الجواهر والحيوانات والمعادن. وقد قال الله عز وجل في الحيوان والأصل معيشة على مفعلة (بتحريك الياء). وقد تقدم في الأعراف. وقيل: إنها الملابس؛ قاله الحسن. وقيل: إنها التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة. قال الماوردي: وهو الظاهر. }ومن لستم له برازقين} يريد الدواب والأنعام؛ قاله مجاهد. وعنده أيضا هم العبيد والأولاد الذين قال الله فيهم وقد مضى هذا المعنى في }البقرة} وسورة }النساء}. {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} قوله تعالى{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه} أي وإن من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا عندنا خزائنه؛ يعني المطر المنزل من السماء، لأن به نبات كل شيء. قال الحسن: المطر خزائن كل شيء. وقيل: الخزائن المفاتيح، أي في السماء مفاتيح الأرزاق؛ قاله الكلبي. والمعنى واحد. }وما ننزله إلا بقدر معلوم} أي ولكن لا ننزله إلا على حسب مشيئتنا وعلى حسب حاجة الخلق إليه؛ كما قال والخزائن جمع الخزانة، وهو الموضع الذي يستر فيه الإنسان ماله والخزانة أيضا مصدر خزن يخزن. وما كان في خزانة الإنسان كان معدا له. فكذلك ما يقدر عليه الرب فكأنه معد عنده؛ قاله القشيري. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه}. والإنزال بمعنى الإنشاء والإيجاد؛ كقوله{وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} وقوله {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} قوله تعالى{وأرسلنا الرياح} قراءة العامة }الرياح} بالجمع. وقرأ حمزة بالتوحيد؛ لأن معنى الريح الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد. كما يقال: جاءت الريح من كل جانب. كما يقال: أرض سباسب وثوب أخلاق. وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع. وأما وجه قراءة العامة فلأن الله تعالى نعتها بـ }لواقح} وهي جمع. ومعنى لواقح حوامل؛ لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع. قال الأزهري: وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب؛ أي تقله وتصرفه ثم تمريه فتستدره، أي تنزله؛ قال الله تعالى روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم عن مالك - واللفظ لأشهب - قال مالك: قال الله تعالى{وأرسلنا الرياح لواقح} فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولا أدري ما ييبس في أكمامه، ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فساد الأخير فيه. ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت ما يثبت، وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي: إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله؛ لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة وهو اللقاح، وعليه جاء الحديث لو اشتري النخل وبقي الثمر للبائع جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طيبها على مشهور قول مالك، ويرى لها حكم التبعية وإن أفردت بالعقد. وعنه في رواية: لا يجوز. وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث. وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. ومما يتعلق بهذا الباب النهي عن بيع الملاقح؛ والملاقح الفحول من الإبل، الواحد ملقح. والملاقح أيضا الإناث التي في بطونها أولادها، الواحدة ملقحة (بفتح القاف). والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنة، الواحدة ملقوحة؛ من قولهم: لقحت؛ كالمحموم من حم، والمجنون من جن. وفي هذا جاء النهي. وذكر الجوهري على ذلك شاهدا قول الراجز: وعدة العام وعام قابل ملقوحة في بطن ناب حامل قوله تعالى{وأنزلنا من السماء} أي من السحاب. وكل ما علاك فأظلك يسمى سماء. وقيل: من جهة السماء. }ماء} أي قطرا. }فأسقيناكموه} أي جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم. وقيل: سقى وأسقى بمعنى. وقيل بالفرق، وقد تقدم. }وما أنتم له بخازنين} أي ليست خزائنه عندكم؛ أي نحن الخازنون لهذا الماء ننزله إذا شئنا ونمسكه إذا شئنا. ومثله {وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون} أي الأرض ومن عليها، ولا يبقى شيء سوانا. نظيره {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} قوله تعالى{ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} فيه ثمان تأويلات{المستقدمين} في الخلق إلى اليوم، و}المستأخرين} الذين لم يخلقوا بعد؛ قاله قتادة وعكرمة وغيرهما. الثاني - }المستقدمين} الأموات، و}المستأخرين} الأحياء؛ قاله ابن عباس والضحاك. الثالث{المستقدمين} من تقدم أمة محمد، و}المستأخرين} أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ قاله مجاهد. الرابع - }المستقدمين} في الطاعة والخير، و}المستأخرين} في المعصية والشر؛ قاله الحسن وقتادة أيضا. الخامس - }المستقدمين} في صفوف الحرب، و}المستأخرين} فيها؛ قاله سعيد بن المسيب. السادس{المستقدمين} من قتل في الجهاد، و}المستأخرين} من لم يقتل، قاله القرظي. السابع{المستقدمين} أول الخلق، و}المستأخرين} آخر الخلق، قال الشعبي. الثامن{المستقدمين} في صفوف الصلاة، و}المستأخرين} فيها بسبب النساء. وكل هذا معلوم الله تعالى؛ فإنه عالم بكل موجود ومعدوم، وعالم بمن خلق وما هو خالقه إلى يوم القيامة. إلا أن القول الثامن هو سبب نزول الآية؛ لما هذا يدل على فضل أول الوقت في الصلاة وعلى فضل الصف الأول؛ قلت: وعليه يحمل قول عمر رضي الله عنه: تأخر يا فلان، تقدم يا فلان؛ ثم يتقدم فيكبر. وقد روي عن كعب أن الرجل من هذه الأمة ليخر ساجدا فيغفر لمن خلفه. وكان كعب يتوخى الصف المؤخر من المسجد رجاء ذلك، ويذكر أنه وجده كذلك في التوراة. ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وسيأتي في سورة }الصافات} زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى. وكما تدل هذه الآية على فضل الصف الأول في الصلاة، فكذلك تدل على فضل الصف الأول في القتال؛ فإن القيام في نحر العدو، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عمل؛ فالتقدم إليه أفضل، ولا خلاف فيه ولا خفاء به. ولم يكن أحد يتقدم في الحرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. {وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} قوله تعالى{وإن ربك هو يحشرهم} أي للحساب والجزاء. }إنه حكيم عليم} تقدم. {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون} قوله تعالى{ولقد خلقنا الإنسان} يعني آدم عليه السلام. }من صلصال} أي من طين يابس؛ عن ابن عباس وغيره. والصلصال: الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار؛ عن أبي عبيدة. وهو قول أكثر المفسرين. وأنشد أهل اللغة: وقال مجاهد: هو الطين المنتن؛ واختاره الكسائي. قال: وهو من قول العرب: صل اللحم وأصل إذا أنتن - مطبوخا كان أو نيئا - يصل صلولا. قال الحطيئة: وطين صلال ومصلال؛ أي يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد. فكان أول ترابا، أي متفرق الأجزاء ثم بل فصار طينا؛ ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا؛ أي متغيرا، ثم يبس فصار صلصالا؛ على قول الجمهور. وقد مضى في }البقرة} بيان هذا. والحمأ: الطين الأسود، وكذلك الحمأة بالتسكين؛ تقول منه: حمئت البئر حمأ (بالتسكين) إذا نزعت حمأتها. وحمئت البئر حمأ (بالتحريك) كثرت حمأتها. وأحماتها إحماء ألقيت الحمأة؛ عن ابن السكيت. وقال أبو عبيدة: الحمأة (بسكون الميم) مثل الكمأة. والجمع حمء، مثل تمرة وتمر. والحمأ المصدر، مثل الهلع والجزع، ثم سمي به. والمسنون المتغير. قال ابن عباس: (هو التراب المبتل المنتن، فجعل صلصالا كالفخار). ومثله قول مجاهد وقتادة، قالا: المنتن المتغير؛ من قولهم: قد أسن الماء إذا تغير؛ ومنه وقال الفراء: هو المتغير، وأصله من قولهم: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به. وما يخرج من الحجرين يقال له السنانة والسنين؛ ومنه المسن. قال الشاعر: أي محكول مملس. حكي أن يزيد بن معاوية قال لأبيه: ألا ترى عبدالرحمن بن حسان يشبب بابنتك. فقال معاوية: وما قال؟ فقال قال: فقال معاوية: صدق! فقال يزيد: (3) فقال: صدق! فقال: أين قوله: ثم خاصرتها... البيت. فقال معاوية: كذب. وقال أبو عبيدة: المسنون المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء وغيره على الوجه إذا صببته. والسن الصب. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (المسنون الرطب)؛ وهذا بمعنى المصبوب؛ لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب. النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: سننت الشيء أي صببته. قال أبو عمرو بن العلاء: ومنه الأثر المروي عن عمر أنه كان يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والشن (بالشين) تفريق الماء، وبالسين المهملة صبه من غير تفريق. وقال سيبويه: المسنون المصور. أخذ من سنة الوجه وهو صورته. وقال ذو الرمة: وقال الأخفش: المسنون. المنصوب القائم؛ من قولهم: وجه مسنون إذا كان فيه طول. وقد قيل: إن الصلصال للتراب المدقق؛ حكاه المهدوي. ومن قال: إن الصلصال هو المنتن فأصله صلال، فأبدل من إحدى اللامين. }من حمأ} مفسر لجنس الصلصال؛ كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب. {والجان خلقناه من قبل من نار السموم} قوله تعالى{والجان خلقناه من قبل} أي من قبل خلق آدم. وقال الحسن: يعني إبليس، خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام. وسمي جانا لتواريه عن الأعين. قلت: هذا فيه نظر؛ فإنه يحتاج إلى سند يقطع العذر؛ إذ مثله لا يقال من جهة الرأي. وقد {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} قوله تعالى{وإذ قال ربك للملائكة} تقدم في }البقرة}. }إني خالق بشرا من صلصال} من طين }فإذا سويته} أي سويت خلقه وصورته. }ونفخت فيه من روحي} النفخ إجراء الريح في الشيء. والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق؛ فالروح خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما؛ كقوله: (أرضي وسمائي وبيتي وناقة الله وشهر الله). ومثله }وروح منه} وقد تقدم في }النساء} مبينا. وذكرنا في كتاب (التذكرة) الأحاديث الواردة التي تدل على أن الروح جسم لطيف، وأن النفس والروح اسمان لمسمى واحد. وسيأتي ذلك إن شاء الله. ومن قال إن الروح هو الحياة قال أراد: فإذا ركبت فيه الحياة. }فقعوا له ساجدين} أي خروا له ساجدين. وهو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة. ولله أن يفضل من يريد؛ ففضل الأنبياء على الملائكة. وقد تقدم في }البقرة} هذا المعنى. وقال القفال: كانوا أفضل من آدم، وامتحنهم بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل. وهو مذهب المعتزلة. وقيل: أمروا بالسجود لله عند آدم، وكان آدم قبلة لهم. {فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين} قوله تعالى }فسجد الملائكة كلهم أجمعون. إلا إبليس} فيه مسألتان: الأولى: لا شك أن إبليس كان مأمورا بالسجود؛ لقول الثانية: الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي، حتى لو قال: لفلان علي دينار إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا قفيز حنطة، وما جانس ذلك كان مقبولا، ولا يسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب والحنطة. ويستوي في ذلك المكيلات والموزونات والمقدرات. وقال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما: استثناء المكيل من الموزون والموزون من المكيل جائز، حتى لو استثنى الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم قبل. فأما إذا استثنى المقومات من المكيلات أو الموزونات، والمكيلات من المقومات، مثل أن يقول: علي عشرة دنانير إلا ثوبا، أو عشرة أثواب إلا دينارا لا يصح الاستثناء، ويلزم المقر جميع المبلغ. وقال محمد بن الحسن: الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ويلزم المقر جملة ما أقر به. والدليل لقول الشافعي أن لفظ الاستثناء يستعمل في الجنس وغير الجنس؛ قال الله تعالى فاستثنى اليعافير وهي ذكور الظباء، والعيس وهي الجمال البيض من الأنيس؛ ومثله قول: {قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين، قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون، قال فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} قوله تعالى{قال يا إبليس ما لك} أي ما المانع لك. }ألا تكون مع الساجدين} أي في ألا تكون. }قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} بين تكبره وحسده، وأنه خير منه، إذ هو من نار والنار تأكل الطين؛ كما تقدم في }الأعراف} بيانه. }قال فاخرج منها} أي من السماوات، أو من جنة عدن، أو من جملة الملائكة. }فإنك رجيم} أي مرجوم بالشهب. وقيل: ملعون مشؤوم. وقد تقدم هذا كله مستوفى في البقرة والأعراف. }وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين} أي لعنتي، كما في سورة }ص}. {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين، إلى يوم الوقت المعلوم} قوله تعالى{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} هذا السؤال من إبليس لم يكن عن ثقته منه بمنزلته عند الله تعالى، وأنه أهل أن يجاب له دعاء؛ ولكن سأل تأخير عذابه زيادة في بلائه؛ كفعل الآيس من السلامة. وأراد بسؤاله الإنظار إلى يوم يبعثون: أجلا يموت؛ لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده. قال الله تعالى{فإنك من المنظرين} يعني من المؤجلين. }إلى يوم الوقت المعلوم} قال ابن عباس: (أراد به النفخة الأولى)، أي حين تموت الخلائق. وقيل: الوقت المعلوم الذي استأثر الله بعلمه، ويجهله إبليس. فيموت إبليس ثم يبعث؛ قال الله تعالى الثاني: كلمه تغليظا في الوعيد لا على وجه التكرمة والتقريب. {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} قوله تعالى{قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض} تقدم معنى الإغواء والزينة في الأعراف. وتزيينه هنا يكون بوجهين: إما بفعل المعاصي، وإما بشغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعة. ومعنى{ولأغوينهم أجمعين} أي لأضلنهم عن طريق الهدى. {إلا عبادك منهم المخلصين} قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام؛ أي الذين استخلصتهم وأخلصتهم. وقرأ الباقون بكسر اللام؛ أي الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أو رياء. حكى أبو ثمامة أن الحواريين سألوا عيسى عليه السلام عن المخلصين لله فقال: (الذي يعمل ولا يحب أن يحمده الناس). {قال هذا صراط علي مستقيم} قال عمر بن الخطاب: معناه هذا صراط يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة. الحسن{علي} بمعنى إلي. مجاهد والكسائي: هذا على الوعيد والتهديد؛ كقولك لمن تهدده: طريقك علي ومصيرك إلي. وكقوله {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} قوله تعالى{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} قال العلماء: يعني على قلوبهم. وقال ابن عيينة: أي في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفوي ويضيقه عليهم. وهؤلاء الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم. قلت: لعل قائلا يقول: قد أخبر الله عن صفة آدم وحواء عليهما السلام بقوله وهذه الآية والتي قبلها دليل على جواز استثناء القليل من الكثير والكثير من القليل؛ مثل أن يقول: عشرة إلا درهما. أو يقول: عشرة إلا تسعة. وقال أحمد بن حنبل: لا يجوز أن يستثنى إلا قدر النصف فما دونه. وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح. ودليلنا هذه الآية، فإن فيها استثتاء }الغاوين} من العباد والعباد من الغاوين، وذلك يدل على أن استثناء الأقل من الجملة واستثناء الأكثر من الجملة جائز. {وإن جهنم لموعدهم أجمعين، لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} قوله تعالى{وإن جهنم لموعدهم أجمعين} يعني إبليس ومن اتبعه. }لها سبعة أبواب} أي أطباق، طبق فوق طبق }لكل باب منهم} أي لكل طبقة }منهم جزء مقسوم} أي حظ معلوم. ذكر ابن المبارك قال: أخبرنا إبراهيم أبو هارون الغنوي قال: سمعت حطان بن عبدالله الرقاشي يقول سمعت عليا رضي الله عنه يقول: هل تدرون كيف أبواب جهنم؟ قلنا: هي مثل أبوابنا. قال لا، هي هكذا بعضها فوق بعض، - زاد الثعلبي: ووضع إحدى يديه على الأخرى: وأن الله وضع الجنان على الأرض، والنيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها لظى، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية، وكل باب أشد حرا من الذي يليه سبعين مرة. قلت: كذا وقع هذا التفسير. والذي عليه الأكثر من العلماء أن جهنم أعلى الدركات، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي التي تخلى من أهلها فتصفق الرياح أبوابها. ثم لظى، ثم الحطمة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال الضحاك: في الدرك الأعلى المحمديون، وفي الثاني النصارى، وفي الثالث اليهود، وفي الرابع الصابئون، وفي الخامس المجوس، وفي السادس مشركو العرب، وفي السابع المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أهل المائدة. قال الله تعالى وقال أبي بن كعب: (لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية. وقال وهب بن منبه: بين كل بابين مسيرة سبعين سنة، كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا، وقد ذكرنا هذا كله في كتاب التذكرة. وروى سلام الطويل عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى{لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} جزء أشركوا بالله، وجزء شكوا في الله، وجزء غفلوا عن الله، وجزء آثروا شهواتهم على الله، وجزء شفوا غيظهم بغضب الله، وجزء صيروا رغبتهم بحظهم من الله، وجزء عتوا على الله. ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب (5) {إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام آمنين} قوله تعالى{إن المتقين في جنات وعيون} أي الذين اتقوا الفواحش والشرك. و}في جنات} أي بساتين. }وعيون} هي الأنهار الأربعة: ماء وخمر ولبن وعسل. وأما العيون المذكورة في سورة }الإنسان}: الكافور والزنجبيل والسلسبيل، وفي }المطففين}: التسنيم، فيأتي ذكرها وأهلها إن شاء الله. وضم العين من }عيون} على الأصل، والكسر مراعاة للياء، وقرئ بهما - }ادخلوها بسلام آمنين} قراءة العامة }ادخلوها} بوصل الألف وضم الخاء، من دخل يدخل، على الأمر. تقديره: قيل ادخلوها. وقرأ الحسن وأبو العالية ورويس عن يعقوب }ادخلوها} بضم التنوين ووصل الألف وكسر الخاء على الفعل المجهول، من أدخل. أي أدخلهم الله إياها. ومذهبهم كسر التنوين في مثل {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان، فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله ما في قلوبهم من غل، ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجههم، وتجري عليهم نضرة النعيم؛ ونحوه عن علي رضي الله عنه. وقال علي بن الحسين: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة، يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل. والقول الأول أظهر، يدل عليه سياق الآية. وقال علي رضي الله عنه: (أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من هؤلاء). والغل: الحقد والعداوة؛ يقال منه: غل يغل. ويقال من الغلول وهو السرقة من المغنم: غل يغل: ويقال من الخيانة: أغل يغل. كما قال: وقد مضى هذا في آل عمران. }إخوانا على سرر متقابلين} أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا وتحاببا؛ عن مجاهد وغيره. وقيل: الأسرة تدور كيفما شاؤوا، فلا يرى أحد قفا أحد. وقيل{متقابلين} قد أقبلت عليهم الأزواج وأقبلوا عليهن بالود. وسرر جمع سرير. مثل جديد وجدد. وقيل: هو من السرور؛ فكأنه مكان رفيع ممهد للسرور. والأول أظهر. قال ابن عباس: (على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر)، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة. }وإخوانا} نصب على الحال من }المتقين} أو من المضمر في }ادخلوها}، أو من المضمر في }آمنين}، أو يكون حالا مقدرة من الهاء والميم في }صدورهم}. }لا يمسهم فيها نصب} أي إعياء وتعب. }وما هم منها بمخرجين} دليل على أن نعيم الجنة دائم لا يزول، وأن أهلها فيها باقون. أكلها دائم؛ {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم} هذه الآية وزان {ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون} قوله تعالى{ونبئهم عن ضيف إبراهيم} ضيف إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط. وقد تقدم ذكرهم. وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان، وكان لقصره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد. وسمي الضيف ضيفا لإضافته إليك ونزوله عليك. وقد مضى من حكم الضيف في }هود} ما يكفي والحمد لله. }إذ دخلوا عليه} جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر. ضافه وأضافه أماله؛ {قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين} قوله تعالى{قالوا بشرناك بالحق} أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لابد منه. }فلا تكن من القانطين} أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر. وقراءة العامة }من القانطين} بالألف. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب }من القنطين} بلا ألف. وروي عن أبي عمرو. وهو مقصور من }القانطين}. ويجوز أن يكون من لغة من قال: قنط يقنط؛ مثل حذر يحذر. وفتح النون وكسرها من }يقنط} لغتان قرئ بهما. وحكى فيه }يقنط} بالضم. ولم يأت فيه }قنط يقنط}ومن فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال: قنَط يقنِط، وفي المستقبل بلغة من قال: قنِظ يقنَط؛ ذكره المهدوي. {قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب. يعني أنه استبعد الولد لكبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى. {قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} لما علم أنهم ملائكة - إذ أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد - قال: فما خطبكم؟ والخطب الأمر الخطير. أي فما أمركم وشأنكم وما الذي جئتم به. }قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} أي مشركين ضالين. وفي الكلام إضمار؛ أي أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم. }إلا آل لوط} أتباعه وأهل دينه. }إنا لمنجوهم} وقرأ حمزة والكسائي }لمنْجُوهم} بالتخفيف من أنجى. الباقون: بالتشديد من نجى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. والتنجية والإنجاء التخليص. }إلا امرأته} استثنى من آل لوط امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك. وقد تقدمت قصة قوم لوط في }الأعراف} وسورة }هود} بما فيه كفاية. }قدرنا إنها لمن الغابرين} أي قضينا وكتبنا إنها لمن الباقين في العذاب. والغابر: الباقي. قال: الأغبار بقايا اللبن. وقرأ أبو بكر والمفضل }قَدَرنا} بالتخفيف هنا وفي النمل، وشدد الباقون. الهروي: يقال قدَّر وقدَر، بمعنى. لا خلاف بين أهل اللسان وغيرهم أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي؛ فإذا قال رجل: له علي عشرة دراهم إلا أربعة إلا درهما؛ ثبت الإقرار بسبعة؛ لأن الدرهم مستثنى من الأربعة، وهو مثبت لأنه مستثنى من منفي، وكانت الأربعة منفية لأنها مستثناة من موجب وهو العشرة، فعاد الدرهم إلى الستة فصارت سبعة. وكذلك لو قال: علي خمسة دراهم إلا درهم إلا ثلثيه؛ كان عليه أربعة دراهم وثلث. وكذلك إذا قال: لفلان علي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة؛ كان الاستثناء الثاني راجعا إلى ما قبله، والثالث إلى الثاني فيكون عليه درهمان؛ لأن العشرة إثبات والثمانية إثبات فيكون مجموعها ثمانية عشر. والتسعة نفي والسبعة نفي فيكون ستة عشر تسقط من ثمانية عشر ويبقى درهمان، وهو القدر الواجب بالإقرار لا غير. فقوله سبحانه{إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين. إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين. إلا امرأته} فاستثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثم قال{إلا امرأته} فاستثناها من آل لوط، فرجعت في التأويل إلى القوم المجرمين كما بينا. وهكذا الحكم في الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة طلقت اثنتين؛ لأن الواحدة رجعت إلى الباقي من المستثنى منه وهي الثلاث. وكذا كل ما جاء من هذا فتفهمه. {فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون، قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، وأتيناك بالحق وإنا لصادقون، فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون} قوله تعالى{فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون} أي لا أعرفكم. وقيل: كانوا شبابا ورأى جمالا فخاف عليهم من فتنة قومه؛ فهذا هو الإنكار. }قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون} أي يشكون أنه نازل بهم، وهو العذاب. }وأتيناك بالحق} أي بالصدق. وقيل: بالعذاب. }وإنا لصادقون} أي في هلاكهم. }فأسر بأهلك بقطع من الليل} تقدم في }هود}. }واتبع أدبارهم} أي كن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد فيناله العذاب. }ولا يلتفت منكم أحد} نهوا عن الالتفات ليجدوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح. وقيل: المعنى لا يتخلف. }وامضوا حيث تؤمرون} قال ابن عباس (يعني الشام). مقاتل. يعني صفد، قرية من قرى لوط. وقد تقدم. وقيل: إنه مضى إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين، وإنما سمي اليقين لأن إبراهيم لما خرجت الرسل شيعهم، فقال لجبريل: من أين يخسف بهم؟ قال: (من هاهنا) وحد له حدا، وذهب جبريل، فلما جاء لوط. جلس عند إبراهيم وارتقبا ذلك العذاب، فلما اهتزت الأرض قال إبراهيم: (أيقنت بالله) فسمي اليقين.
|